ِ
ِِ
منقول : أبو بكر عثمان
عاد إلى قريته بعد عشرين عامًا من الغربة.. لم يكد يعرفها إلا بمعالم قديمة قاومت طوفان المسخ.. فاليوم كل بناء في قُرانا ومدننا هو طمس ومسخ لجمالها القديم.. غابات من الأسمنت والحديد متوحشة متنافرة تصفع العيون وتقبض القلوب تستوحش منها الروح.. إيه، لا شأن له بذلك.. لن يبقى هنا سوى أيام معدودات.. ثم يرجع من حيث أتى.
توقف بميدان الباشا وسرت في بدنه قشعِِريرة وخفق قلبه بشدة.. تمامًا كما كان يحدث له قبل سفره الطويل عندما كان يمر من هنا.
من كان يجرؤ على السير في هذا الطريق ويمر أمام قصر الباشا؟!!!
فإذا اضطر لا محالة للمرور تحتَّم عليه أن يترجَّل عن دابته مع أول سور قصر الباشا ويلزم في سيره حافة الطريق.. فإذا مرَّ بمحاذاة بوابة القصر وقُدِّر أن الباشا أو أحد بنيه كان يجلس هناك وجب أن يولي وجهه شطرهم.. ثم ينحني لهم انحناءة أقرب إلى الركوع.
ومع كل ذلك لن يسلم غالبًا من بذاءة لسان أو بطش يد وربما حُبِسَ عندهم مسخَّرًا لأيام في أرض الباشا أو قصره.. ذاك أن الخدمة لدى الباشا فرض عين على أهل القرية وقسمةٌ بينهم.. من يتخلف أو يتخاذل يلقى الجزاء الأوفى؟!!.
رفع الباشا في وجه القرية سلاحًا ذا ثلاثة مخالب.. الثروة والسلطة والقهر.
الثروة كانت أولًا.
ثم اشترى السلطة وعُين عضوًا باللجنة المركزية للحزب الحاكم.. وكوَّن جيشًا جرارًا من البلطجية وأصحاب السوابق ذوي الماضي المجيد.. ليفرض سطوته على القرية وما حولها.. ونسج أبناء الباشا على منوال أبيهم.
وهل تلد الحية إلا حية؟!!!
فكان ابن الباشا الأكبر ـ مدحت ـ يُبدع في تعذيب الضعيف.. إنسانًا كان أو حيوانًا.. يستمتع بذلك أيما استمتاع.
مثلاً إذا اشتمَّ من أحد خدمه شبهة تقصير أو تأخر في خدمته زمجر في غضب وصاح:
اصنع لنفسك قهوة!
وما أدراك ما القهوة؟!
معنى ذلك أن يُعِدَّ الخادم حلة صغيرة من القهوة الساخنة ثم يقوم مدحت باشا بطلي وجه الخادم المسكين بتلك القهوة إلى أن يحترق وجه.
أما قمة اللذة والنشوة عند مدحت باشا، كما حكى لي أحد الخدم، فهو طقس الاحتفال بالمولود.. ذلك الذي تقشعر وتفزع له الفطرة.. ذاك أنه إذا ولدت كلبة من كلاب القصر.. أمر مدحت باشا بأن تُربط الكلبة الأم إلى جذع شجرة ثم يقوم على مرأى منها بتقطيع أولادها الصغار بالساطور قطعة قطعة.
ويشتد نباح الكلبة.. وتشتد محاولة الفكاك من قيدها دون طائل.. وكثيرًا ما ينتهي بها الأمر إلى الموت قهرًا على صغارها.
ذلك المشهد هو قمة اللذة والسعادة عند مدحت باشا.
وجعل مدحت باشا يجمع حوله الصعاليك من شباب القرية.. وظل يمنحهم المخدرات مجانًا لحاجة في نفسه خبيثة، حتى إذا عاينوا الإدمان قبضَهُ عنهم فأتَوْا إليه خاضعين أذلاء يقدمون فروض الطاعة والولاء رهن جرعة مخدر.. فيسلطهم على أهل القرية يسومونهم الأذى والذل والمهانة ليزداد مدحت باشا استمتاعًا بذلك.
وبلغ من خسته أنه كان يأمرهم برفع الثياب عن النساء في الطرقات.. ومن يحمر له وجه من رجال القرية يناله قسطه من العذاب والنكال.
ذلك كله تَمَاوَجَ في ذاكرة معاذ وهو يسير في الطريق المار بقصر الباشا.. وتلاعبت به الهواجس عندما اقترب من بوابة القصر ونظر من طرف خفي إلى البوابة يغمره الوجل وهمس في فرح:
الحمد لله لا أحد هنا..
سكن قلبه وأدار وجهه إلى بوابة القصر في طمأنينة فإذا بتلٍّ من القمامة يكاد يسد بوابة القصر.
اقترب في حذر فرأى أبواب ونوافذ القصر مغلقة يعلوها التراب، وأسراب من البوم والغربان تحلق حول القصر.. وملأت شجيرات الشوك طرقات القصر.
يا الله! قصر الباشا يعشعش فيه الخراب؟!
هكذا صاح غير مصدق.
ولما وصل إلى بيت خاله معاوية احتشدت وتنازعت قبَله مشاعرُ متضاربة من الأسى والفرح والرهبة والرضا واليقين بالله..
مشاعر فطرية لمن عاين شموخ الطاغية الظالم وبطشه.. ثم عاين بعدُ أطلالًا خربة تنبئ عن قطع دابره وخراب دياره.
لقي خاله معاوية يعتصره نهم بالغ ليعرف ما جرى لساكني القصر.
ولما جاء ذكر القصر..
سكت الخال معاوية.. ونظر إلى السماء وتغيرت ملامح وجهه كأنما هو في صلاة وجعل يردد في صوت خاشع ألجم الحضور:
سبحان الملك الجبار.. سبحان الملك الجبار
مسح دموع عينيه وعاد إلى هدوئه.
ابنَ أختي.. أنت عشت معنا أول حكاية الباشا وآله، وعلمت ما علمت وعرفت ما عرفت.. ولن ألقي عليك إلا طرفًا من مشاهد النهاية.
زاد طغيان مدحت باشا واقتحم كل الحرمات.. وساقه قدره المحتوم فراود فتاة مجنونة.. فطعنته بالسكين في بطنه فحملوه إلى المستشفى.. ومكث عدة أيام.. ثم خرج.. وفي الطريق إلى القصر عاودته الآلام بشدة فأدخلوه مشفًى حكوميًّا صادفهم على الطريق فأُهمل حتى لفظ أنفاسه.
وطالب الباشا بإخراج جثة ابنه من المستشفى ليُدفن.. لكن الطبيب أبى إلا تشريح جثته.. وحاول الباشا بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد وتشفيع عِلْيَةِ القوم لكن دون جدوى.. ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا.. وأنفذ الطبيب ما أراد.. وتم تشريح جثمان مدحت باشا.
طلب مني الباشا التوجه إلى المستشفى لغسل ابنه وتكفينه لما كان من صداقة قديمة بيننا.. حتى لا يشاع في القرية نبأ تشريح ابنه فيشمت به أهل القرية.. فآثر أن يُغسَّل ويكفَّن بالمستشفى.. وأرسل معي خادمًا عجوزًا من خدم القصر.
ولما دخلنا على مدحت باشا وجدنا جسده ممزقًا كله لا يخلو شبر من عبث مشرط الطبيب، ولو قُدِّر لأعدى أعدائه أن ينكِّل به ما فعل أكثر من ذلك.. فقد شق بطنه طولًا وعرضًا وفخذه وذراعه.. وثقب رأسه.. ولما عاين الخادم الجثة جعل يصرخ في جنون:
الكلاب.. الكلاب.. القصر الملعون.. القصر الملعون
إلى أن أغمي عليه وحُمل إلى القصر، ولما أفاق هرب من القصر وجعل يصرخ:
الكلاب.. الكلاب.. القصر الملعون.. القصر الملعون
ودخل الخادم إلى المسجد وأبى أن يخرج منه.. وظننت كما ظن الجميع أن وفاء هذا الخادم لسيده بلغ منه مبلغًا.. لكن بعد شهور انكشف لي القناع.. فجلست يومًا إلى الخادم في مؤخرة المسجد بعد أن انصرف الجميع وأسرَّ إليَّ أنه لما عاين جسد مدحت باشا الممزق بالمشرحة تذكر الكلاب الصغيرة التي كان يقطعها مدحت باشا بالساطور... أشبه جسدُه جسدَها.. تمامًا بتمام.. لم يكن هناك أي اختلاف..
ولما كنت أنا الذي أُحضر له الكلاب الصغيرة وأقيِّد أمها إلى جذع الشجرة أيقنت أن لعنة حلَّت بهذا القصر وخشيت أن يمسني شررُها.
وتتابعت الخطوب على أهل القصر مبرهنةً على صدق حدث الخادم.. فقد عاد شومان ـ الابن الأصغر للباشا ـ من أمريكا وفي جعبته الإدمان.. فسلط على أموال أبيه.. فسرى فيها خرابًا كما تسري النار في الهشيم.
ورُدَّ الباشا إلى أرذل العمر.. وشوهد ابنه شومان في هذا السن يرفع عليه العصا ويسبه بأقذع الشتائم ويتهدده ويتوعده، وعوام الناس يفصلون بينهما ويدفعون عن الباشا أذى ابنه.
وأفنى شومان ثروة أبيه جميعًا، ولم يبق لهم سوى القصر.. ثم مات شومان بعد ذلك بجرعة مخدر.
أعرض الناس عن الباشا الهرِم، وأمسى منبوذًا في قصره كجمل أجرب.. ومات يومًا على سريره وحيدًا لم يعلم بموته أحد إلا بعد شهور طويلة بعد أن أمسى جثمانه عظامًا عارية بالية على سريره.
كشف ذلك مصادفةً أحد اللصوص الذي حاول سرقة القصر الخالي على وِفَاضِهِ.
حاول أقارب الباشا وورثته بيع القصر دون جدوى.. فقد راج بين الناس أنه قصر ملعون، فتحاشاه الناس واجتنبوه.. حتى أنهم تركوا ثمار أشجاره إلى أن تعفنت لم يمسسها أحد.. وصارت أسوار القصر مزابل قمامة.
وكلما سمعت شيخ المسجد أو أحدًا ما يقرأ قوله تعالى:
((فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ))[الحج:45]
كلما سمعت ذلك تذكرت:
القصر الملعون